مطحنة الملـح
كيف أصبحت مياه البحار والمحيطات
مالحةً؟
هذا ما ترويه الجدّات لأحفادهنّ:
كان يعيش في قريةٍ صغيرةٍ أخوان،
أحدهما إسمه “كريم” وهو رجلٌ صادقٌ يُحسن معاملة جيرانه ويساعد الفقراء كلّما منحه
الله رزقًا، لكنّه لم يكن غنيًا. وكان يعيش مع زوجته وأولاده.
والثّاني اسمه “وحيد” وكان غنيًا
يعيش في منزلٍ فخمٍ. لكنّه لم يكن محبوبًا. فهو بخيلٌ لا يساعد أحدًا.
عاد كريم ذات يومٍ إلى بيته عند
العصر، فوجد زوجته حزينةً مهمومةً. ولمّا سألها عمّا بها، قالت: “لم نتناول طعام
الغداء بعد، وليس لدينا نقود نشتري بها طعام العشاء. الأولاد جيّاع، ويجب أن
نتدبّر الأمر”.
حزن كريم عندما سمع كلام زوجته.
فهو لم يوفّق يومها في عمله، ولم يجنِ إلاّ القليل من المال. وفي طريق العودة إلى
منزله صادف رجلاً فقيرًا، فأعطاه ما كان معه، ولم يكن يعلم أنّ ما مع زوجته من
نقودٍ قد نفذ أيضًا.
وقع كريم في حيرةٍ من أمره،
وأخيرًا قرّر طلب المساعدة من أخيه وحيد. ووعد زوجته بأن يأتيها بالطّعام قبل أن
ينام الأولاد.
لمّا دخل بيت أخيه، وَصلت إليه
رائحة الطّعام الشّهي. ولما قابل أخاه، حكى له ما حصل معه، وطلب إليه أن يساعده.
فأجابه وحيد: “أنتَ تُنفق أموالك ثم تأتي لتطلب المساعدة مني؟ هذه المرّة سأعطيك
بعض الطعام، لكن إيّاك أن تكرّر طلبك هذا”.
خرج كريم من منزل أخيه كسير الفؤاد
حزينًا، وقال في نفسه: “سامحك الله يا أخي. أتلومني إذا أعطيتُ بضعة دراهمٍ لرجلٍ
مسكينٍ؟”
في طريق عودته، رأى شيخًا جليلاً،
أبيض الشّعر واللّحية، تبدو الطّيبة في وجهه. بادره الشّيخ قائلاً: “مساء الخير يا
بُنيّ. ماذا تحمل في يدك؟”
-“بعض الطّعام للعشاء، إن شئتَ أعطيتك شيئًا منه”.
-“شكرًا يا بُنيّ. إنّ مَن كان مثلك في الكَرَم وحُسن الخُلق لا
ينساه الله. خُذ هذه المطحنة العجيبة. تستطيع أن تطلبَ منها ما شئتَ من ألوان
الطّعام وسوف تستجيب لطلبك في الحال. ما عليك إلاّ أن تصفّق بيديك، ثم تقول لها: .
وإذا أردتها أن تتوقّف عن العمل، صفّق بيديك مرةً أخرى”.
دهشَ كريم عندما سمع هذا الكلام،
وأخذ المطحنة بين يديه ليتفحّصها. وعندما رفع رأسه ليشكر الشيخ على هديته، لم يجده
أمامه.
تابع كريم سيره وهو يشكر الله على
هذه النّعمة، إذ بفضل المطحنة العجيبة لن يشعر أولاده بالجوع أبدًا.
ولما دخل المنزل، وجد زوجته
وأولاده مُجتمعين ينتظرون الطعام. فقالت له زوجته: “لقد تأخّرتَ، وجاع الأولاد
كثيرًا”.
وضع كريم المطحنة على الطاولة،
وصفّق بيديه وقال: “إطحني وأعطينا طعام العشاء”.
وكَم دهش الجميع حين رأوا المائدة
وقد حفلت بأصناف الطّعام.
ومنذ ذلك اليوم صار كريم يدعو إلى
مائدته أهل القرية، ويوزّع الطعام على المُحتاجين والفقراء..
وذات يومٍ، كان أخوه “وحيد” بين
المدعوين. ولمّا رأى ما صارت إليه حال أخيه من خيرٍ وفيرٍ، ورآه بين الحين والآخر
يدخل المطبخ، ثم يعود محمّلاً بما لذّ وطاب من الطعام، أخذه العجب والحسد، وقال
له: “أخبرني، لقد كنتَ قبل أيّامٍ لا تملك ثمن رغيفٍ واحدٍ، فمن أين هَبَطت عليك
النّعمة؟”
فأجابه كريم: “إن كلّ نعمةٍ هي من
عند الله، فالحمد لله والشّكر”.
لم يستطع وحيد أن يقاوم الحسد
والطمع، فاختبأ في زاويةٍ مُظلمةٍ من زوايا المطبخ، وانتظر…
بعد قليلٍ، دخل كريم ليطلب إلى
المطحنة مزيدًا من الحساء للضّيوف، فعرف الأخ الجشع من أين يأتي أخوه
بكلّ هذا الطعام. وما إن خرج كريم لِلَحظةٍ من المطبخ، حتّى كان وحيد قد حمل
المطحنة بيديه، وهي ما تزال تعمل، وفرّ بها مسرعًا من منزل أخيه، يتبعه سيلٌ من
الحساء أينما اتّجه.
ما إن وصل وحيد إلى منزله، حتى
أسرع يبحث عن آنيةٍ ليضع فيها الحساء المُنسكب. وبقيت المطحنة تعمل، ووحيد يحاول
أن يوقفها من دون جدوى. وسال الحساء على الطاولة ثم على أرض المنزل، حتّى كاد
يغرقه، ووحيد ينطق بكلّ الكلمات التي تخطر على باله، لكنّ المطحنة لم تتوقف عن
العمل. فما كان منه إلاّ أن حملها وركض عائدًا إلى منزل أخيه. ودهش مَن رآه على
الطريق، وهو يجري، ويجري خلفه سيل الحساء وكأنّه الطوفان.
دخل وحيد منزل أخيه مسرعًا، وقال
لأخيه: “إذا لم تُوقف هذه المطحنة فورًا فإنّها سوف تغرق القرية كلّها. لقد
تعلّمتُ درسًا لن أنساه أبدًا. إنّ نتيجة الطمع والحسد وخيمةٌ. خُذ مطحنتك ولا
أريد أن أراها بعد اليوم.
صفّق كريم بيديه فتوقّفت المطحنة
عن العمل في الحال.
ذاع نبأ المطحنة العجيبة بين
الناس، فكانوا يأتون من كلّ مكانٍ ليشاهدوها. وكان كريم لا يبخل على أحدٍ ويعطي
الجميع.
وذات يومٍ، طرق بابه رجلٌ يرتدي
ملابس غريبة، وكأنّه أتى من مكانٍ بعيدٍ جدًا، فاستقبله كريم بلطفٍ، وسأله عن
طلبه، فقال: “أنا ربّان سفينةٍ كبيرةٍ، جئتُ من مكانٍ بعيدٍ إلى قريتكم، بعد أن
سمعتُ عن مطحنتك العجيبة. وقد جئتُ أسألك: هل تُعطي مطحنتك ملحًا؟”
“طبعًا أجاب كريم. إنّها تعطيك كلّ ما تريد من ألوان الطّعام”.
“لقد قضيتُ سنين طويلة من حياتي أقود سفينتي، وأنتقل من بلدٍ إلى
آخر بحثًا عن الملح لأتاجر به. فهل تقرضني مطحنتك لأملأ سفينتي ملحًا، فتوفّر عليّ
عناء السّفر؟”
وافق كريم على طلب الرّبان، وأخذ
يشرح له ما يجب أن يفعل حتى تبدأ المطحنة بالعمل. لكنّ الرجل خاف أن يُغيّر كريم
رأيه ويرجع عن وعده، فحمل المطحنة وخرج مُسرعًا قبل أن يشرح له كريم كيف يُوقف
المطحنة عن العمل. تعجّب كريم للأمر وقال في نفسه: “إن هذا الرجل على عجلةٍ من
أمره، ألا يعرف أنّ في العجلة النّدامة؟”
لما وصل الربان إلى السفينة، رفع
الأشرعة، وأبحر بها. ثم وضع المطحنة على الطّاولة وصفّق بيديه وقال: “اطحني
وأعطيني ملحًا”.
بدأت المطحنة العمل، وتدفّق الملح
على الطاولة، ثم فاض على أرضية السّفينة، وأخذ يرتفع شيئًا فشيئًا حتّى امتلأت
السفينة، وصعد الملح على السّطح. عندها حاول الرّبان أن يوقف المطحنة، لكنّه لم
يستطع، وظلّت تطحنُ وتطحن، والملح يرتفع ويعلو، حتّى خاف الربان أن تغرق السّفينة.
فشقّ طريقه بين أكداس الملح، حاملا المطحنة ثم رماها في البحر، فغرقت في القاع،
وهي ما تزال تطحن وتعطي الملح فتجعل مياه البحر مالحةً.
ويقول بعض الناس إنّها ما زالت
هناك حتّى اليوم، تُجدّد ملح البحر باستمرارٍ.
هل عرفتم الآن أيّها الصّغار، كيف
يروي الناس لبعضهم سبب ملوحة مياه البحار والمُحيطات؟
لكن هل تصدقون أنّ هذا هو السبب
الحقيقي لملوحة هذه المياه؟
لا طبعا… فالنّاس يروون هذه الحكاية
للتسلية والعبرة والموعظة. وقد تَخَيّلوها لأنهم كانوا في الماضي يجهلون السّبب
الحقيقي لوجود الملح في البحر. أمّا اليوم فقد أصبحوا يعرفون جيدًا أنّ كل نهرٍ
على سطح الأرض يصبّ في البحر أو في المحيط، وخلال سيره ، يجرف النّهر معه التراب
ومواد أخرى، منها الملح. وعندما يصبّ النهر في البحر يجلب معه الملح. وخلال آلاف
السّنين تراكم هذا الملح وكثر في البحار حتى صار طعم ماء البحر مالحًا…!
إذن… الأنهار هي التي تقوم بمُهمّة
المطحنة العجيبة التي عرفناها من الحكاية.
إرسال تعليق